تراجيديا مها الدوري ... بقلم أحمد عبد الحسين
تراجيديا مها الدوري ... بقلم أحمد عبد الحسين
المقال نشر على موقع العالم على شبكة الانترنت :
في أيام مراهقتنا، مع أولى نوازعنا الدينية، كنا نتداول محاضرات السيد محمد باقر الصدر بسريّة وخوف، نصغي إليها برهبة كأننا نتعبّد بها، رعبنا من أن يسمعنا واش من وشاة السلطة كان طريقة في التعبّد، لأننا كنا أبرياء، وكانت براءة كلمات السيّد تخاطبنا نحن الصبية الذين ظننا أن كلمة صادقة يمكن أن تغيّر العالم والنفوس، حفظنا محاضرات الصدر الأول عن ظهر قلب، والآن أفكر أني لو اهتممت بدروسي اهتمامي بحفظ تلك المحاضرات لأصبحت شاطرا ولم أصبح شاعرا.
أول أمس ذكرتني السيّدة النائبة مها الدوري بنصّ محاضرة للشهيد الصدر كانت تبكينا دون سواها، المحاضرة اسمها "حب الله وحب الدنيا"، يقول فيها الصدر اننا نسبّ هارون الرشيد ليلَ نهار لأنه سجن موسى بن جعفر، لكننا لو عُرضتْ علينا دنيا الرشيد وأمواله وسلطانه لكنا فعلنا بالإمام الكاظم أقسى مما فعله به.
السيّد بريء كقلب نبيّ، ومستمعوه الذين يقاطعون كلامه بالعويل والنحيب أبرياء، ونحن الذين كنا أطفالا مترعون براءة، وأول أمس رأيت مها الدوري بريئة وهي تتلو كلام السيد الصدر في مؤتمر صحفي بمجلس النواب.
في قصص المتحولين جسديا رعب كما في أفلام وروايات الـ "Transformers" لكن في قصص متحولي الضمير والأخلاق تراجيديا مؤسية: رجل يظنّ نفسه كاملا ومنزها عن الصغائر ثم ما ان تُعرض عليه سلطة أو مال حتى ينقلب مسخا، لا أستطيع أن أمسح من ذاكرتي حكاية عبد الملك بن مروان حين قيل له أصبحت خليفة وكان بين يديه مصحف يقرأ به، فضرب المصحف مخاطبا إياه: هذا فراق بيني وبينك، وابتدأت رحلة ظلمه الناس وقتله على الشك والشبهة. وفي القرآن آية تتحدث عن انمساخ كهذا "فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم".
عن تراجيديا كهذه كانت السيدة مها الدوري تتكلم بحرقة وبراءة، وكانت توجه كلماتها لرئيس الوزراء ربما لتذكره بأيام براءته، أيامَ كانت كلمات الصدر تفعل به ما فعلته بنا حين كنا صغارا وأبرياء.
تراجيديا المتحولين لا تضاهيها أسى إلا تراجيديا الأبرياء، الذين يظنون انهم بكلمة نابعة من وجدان نقيّ يستطيعون إيقاظ الإنسان الميت داخل من يخاطبونه، وان مجرد التكلم بلطف كافٍ لإعادة الرحمانية إلى الإنسان.
براءة كلام الدوريّ كانت تراجيدية أيضا، لأني وأنا أرى صدقها وحرقة قلبها أشعر انها تحرث في أرض بور، تنادي من لم تعد ذكريات وجدانه البعيدة تؤثر فيه إلا تأثيرها بجلمود.
كثيرون يشبهون الدوري، ولعلّي منهم، ولعلّك أنت ايها القارئ يا من تحب العراق منهم، من أولئك الذين يريدون بفائضٍ من إيمانهم بالكلمة أن يستمروا في مخاطبة الحجر، حتى يلين الحجر!.